نـــســــــاء الــمـــنــــكـــر" لـــســـمـــر الــمـــقـــرن
خــرجــــتْ روحـــي مــع خــطــــواتــه الــى الأبــــد
"الحب يجعل المرأة تشعر أنها جميلة"، جملة محورية تقود القارئ إلى مفاتيح رواية "نساء المنكر" للصحافية والروائية السعودية سمر المقرن، الصادرة عن "دار الساقي"، في طبعات عدة خلال عام. يبدو أثر تلك الجملة فاعلاً، حين يتبدّى ظاهراً في المسعى الذي تسلكه نساء الرواية للحصول على حريتهن، ومعرفة ذواتهن، ودواخلهن، في مجتمع جافٍ، لا يعترف بالمشاعر الإنسانية للمرأة، ولا يحققها في علاقاته وتعامله مع نسائه. دلالات متعددة على تلك النظرة المتحجرة، والقساوة في معاملة المرأة، باعتبارها "عورة" يجب سترها، والتخلص من غوايتها، وفتنتها، ووأدها وهي حية، أو تركها معلّقة كعودٍ جاف في جذع نخلة، إن لم ترضخ لرغبات الرجل في صمت تام: "انقضت ثماني سنوات من عمري وأنا أحمل على الأوراق الرسمية لقب "متزوجة" وما أنا في الواقع إلا "مُعلقة"، والضمير التقليدي لا يتوانى في وصفي أمام نفسي بحاملة الخطيئة".
تلك العلامات والإشارات التي تبثها الكاتبة عن رجال المجتمع، المتخفّين وراء ستار الدين، في مواجهة الذات الفردانية، وسعيها إلى أن تحيا وتعيش ذاتها، هي الدافع وراء رغبة سارة في الخروج على التقاليد، لأنها وجدت نفسها في قيد زواج لم يتحقق لسنوات، من رجل لم تره من قبل، وهي إشارات ناجحة من الكاتبة للولوج إلى عالم سارة الداخلي، ورصد إنفعالاتها، وهي تحاول أن تكسر القيد، وتفك أغلالها في الخفاء، بالتعرف الى رئيف، حبيب صديقتها آسيل، بعدما فشلت علاقتهما معاً، وآلت إلى منطقة نفسية مأزومة، مما جعلها على يقين من عدم عودتهما، أحدهما الى الآخر، واتخذت قرارها المضي في التواصل معه، ورؤيته، بالسفر إليه في لندن: "الحب الذي يبدأ عبر أسلاك الهاتف، وخلف شاشات الكومبيوتر يجعل الوقوف الأول في حضرة الحبيب أمراً ليس سهلاً".
سافرت سارة في رحلة إلى لندن لملاقاة حبيبها، امتدت لعشرة أيام، تفتحت فيها الحواس بنهم، راحت ترتشف الحب، وتعوض ما فاتها في الثلاثين عاماً محصلة عمرها: "الحب الذي مارسته مع رئيف ليلة كاملة كان أقوى وأكبر من عِشرة زوجين لربع قرن في بيت متهالك العواطف مترامي الإحساس بالآخر". من تلك الزاوية تفتح سمر المقرن نافذة لبطلتها سارة تمكّنها من أن تلمس ذاتها، وتحققها، وهي تمارس حريتها كاملة، بعيداً عن مجتمعها، وتقاليده، ونظرته المتدنية إلى الحب. ذلك ما يجعلها تقف على الحافة، تعقد مقارنات بين ما تجابهه النساء في بلدها، وما يصطدمن به، وما ينلنه، ويستمتعن به في المجتمعات الغربية، وخصوصاً في لندن، من خلال ما تراه من حولها، وما تعيشه في لحظتها الآنية وهي تمارس حبها، وما ينتعش في ذاكرتها من مخزون ترسّب فيها منذ الطفولة في زيارتها لندن مع الأهل، ومرورها بحديقة "الهايد بارك" والعشاق وهم يتبادلون القبلات والحب يسكنون في ذاكرتها الصغيرة. وهذا ما يجعلها تصحو على صوت صارخ في داخلها، يعكس مدى الهوة بين المجتمعين: "الوطن عندما يتحول غربة يصبح شيئاً أصعب من شهقات الموت، انفصاماً تاماً ما بين الداخل والخارج، ثمة عتمة من دونه ويزيدها الجفاء اختناقاً". ليس الحب وممارسته هو أزمة سارة الوحيدة، إنما الإزدواجية في التفكير في مجتمعها، والتعامل في الظاهر، على العكس مما في الباطن، والتشدق بأقوال تتمسك بتعاليم الدين الظاهرية، من دون الإهتمام بالجوهر، كل ذلك تسبب لها بنوع من الإنفعال جعلها تُقبل على تلك الحالة كمن ترمي بنفسها في النهر، من دون النظر إلى العواقب، ومن دون أن تكون قادرة على السباحة.
تعود سارة من رحلتها متخمة بالحب، تودّ لو تنثره في بيئتها، لكنها تصطدم بتلك القيود الصارمة، وتتبدد علاقتها بذاتها حين تعي أن ما مرّت به، ليس أكثر من محض سراب، تجلّى في معاملة رئيف لها، وعدم تواصله معها، مثلما كان قبل أن يلتقيا، ويشرب من عسلها، ويتنفس عطرها. وتنهي سمر المقرن ذلك الجزء من روايتها القصيرة، لتبدأ مرحلة أخرى في تصاعد درامي للحوادث، بعودة رئيف إلى الرياض، ولقائه سارة تحت إلحاحها في مطعم عائلي، وفي لحظات ينقضّ رجال الهيئة على من في المطعم، ويأخذونهما عنوة إلى السجن. برعت سمر المقرن في تصوير غلاظة الرجال، وقساوتهم التي تصل إلى الضرب بالعصي، والأكف، حتى يجبروها على توقيع وثيقة معدّة سلفاً، تبيّن مدى جرمها الإباحي: "لم أكمل بعدُ الحرب الأخيرة من "مني" إلا وقدمه الغليظة تنشب في بطني، وهكذا انهالت عليَّ الضربات واحدة تلو الأخرى في المكان نفسه". وحين ترفض سارة التوقيع يزجّ بها في السجن، لتبدأ تفاصيل السرد بالتصاعد، في تجمع نسائي، لكل واحدة منهن حكايتها، وإن إجتمعن على أن الزج بهن في السجن بسبب حبهن، والرغبة في أن يعشن أنفسهن ومشاعرهن. وفي ذلك المكان تعرفت سارة الى كثيرات، مكسورات، ومقيدات وراء أسوار السجن، بتهمة "اللقاء والحب"، وأصبحن "نساء المنكر" في نظر المجتمع: "كلما مرّت الأيام، وأنا لا أعرف أي جريمة ارتكبت ولا أي عقاب سينالني ساءت أحوالي النفسية أكثر وأكثر".
في الجزء الأخير من الحوادث الساخنة، خرجت سارة من السجن، وظلت أربعة أشهر تحاول الوصول إلى رئيف، لكنها أخفقت، لتطوي صفحة مليئة بالعذاب، والدماء، والقهر: "احتملت الرياض بقسوتها وأنانيتها. احتملت الشهيق والزفير السامّ. احتملت الأرض الصلبة التي تدقّ في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة في عظم آدميتها، وتنخر في كل شعرة بيضاء في رأسها". يستطيع القارئ أن يلمس فداحة ما تحسه وتشعر به سارة، ونظرة المجتمع اليها، وتشظّي ذاتها على إسفلت الطريق، وهي تلملم أشلاء كرامتها المهدورة، وإن تعجلت سمر المقرن إنهاء روايتها. وإمعاناً في الحبكة السردية المتقنة، تقبل سارة أن تعمل "صبّابة قهوة" في أحد قصور الأفراح، لتجد ما يعينها على مواصلة الحياة، وفي اللحظة نفسها يسلبها حياتها التي كانت تتطلع إليها، في مشهد ختامي بارع من سمر المقرن: "أقبل العريس لتخرج مع خطواته روحي. أقبل رئيف ليرحل إلى الأبد".
محمد العشري
القاهرة
جريدة النهار
السبت 9 مايو 2009
http://www.annahar.com/content.php?priority=1&table=adab&type=adab&day=Sat